دق الباب
ذهبت في اتجاه الباب العتيق واهنة الخطى ، تتسربل في جلبابها الشاحب فوق الكتفين ، هزيلة هي ، تحمل فوق عاتقها آلام تثقل الجبال ،
أهذه هي ؟
أين من كانت تمشي تتهادى الأرض طواعية تحت أقدامها ؟
أين من كانت تتمايل الأشجار طربا إذا ما تمتمت بأنشودتها الصباحية؟
ورقصت العصافير على استحياء حولها فرحة برحيق ابتسامتها البريئة؟
وهي تحمل جرتها في اتجاه النهر
أين من كانت تتهافت المياه لملء جرتها وتلامس يديها خلسة و لتنعم بحملها على رأسها ، ترافقها في رحلة العودة إلى دارها القابعة بين الحقول ؟
أهذه هي ؟
جالس أنا في زاوية الدار
أرقبها ذاهبة نحو الباب العتيق
تتقاذفني شكوك الخوف
أعتقد أنه هو
أحاول طمأنة نفسي
ليس هذا موعد عودته
اعتدت أن يعود بعدما أندس في سريري مدعيا الدخول في ثبات عميق
مدت أناملها الرقيقة نحو الباب تفض الصمت المسدول عليه منذ سنين
تساءلت بصوتها الرقيق : من؟
سرت بجسدينا قشعريرة رعب عندما أتانا صوت أجش من وراء الباب
: من؟
ترددت في فض الباب العتيق لكنها أيقنت باستحالة التراجع
نظرت نحوي
اندفعت من عينيها تجاهي نظرة المغلوب على أمره
لم أقوى على الحراك فارا بنفسي من نظراته
هرعت داخل نفسي أختبئ كي لا يراني
دسست وجهي الهالع بين ركبتي
انفض الباب
غمرني سيل الضوء المندفع بين مصراعيه
وأراني أدور
تسحبني لأسفل دوامات الرعب الجاثم على صدري
حجب الضوء ظلام حالك
أختلس النظرة من بين يداي المتشابكة حول ركبتاي
وأراه
ليثا ينقض على فريسته الثكلى
تجمدت أطرافها خوفا
وجاء زئيره مزلزلا الأرض من تحتي
: ألم أحذرك من ارتداء السواد
سمعت اصطكاك ركبتيها وهي تحاول الإفلات من قبضته
قالت متحشرجة :
حاضر ياخويا حاضر
قالتها وانطلقت كالريح تتوارى خلف باب غرفتها
انطلق خلفها ، فهدا يلاحق فريسته الفارة
اندفع الباب خلفهما ، فارتجت جنبات الدار
لا أدري من أين جاءت المسكينة بكل هذه القوة
سمعت زئيره يدوي يلاحقه صمت
تسللت إلى غرفتي تتحسس أصابع قدمي الطريق
بالكاد وصلت
أغلقت الباب خلفي خلسة
رميت بنفسي فوق سريري الحديدي
أدس وجهي السلبي بين وسائده القطنية
تتساقط أمطار دموعي تغرقها
أتمتم :
حتى السواد ؟ حتى السواد
تتوغل إلى شعري أنامل حنان
يتسلل داخلي صوتها الحاني
: علي ؟ علي
أحاول منع اشتياقي لحضنها الآمن كي أتلذذ بنبراتها ، لا أقدر
تضمني لصدرها
:علي ؟ البكاء حيلة النساء
ألف وجهي باتجاهها
: حتى السواد يا أمي ؟ حتى السواد ؟
أليس الذي مات هذا ابنه ؟
منعك من العويل ،
منعنا من البكاء ،
لكن ، حتى ارتداء ملابس الحداد يمنعك منه ؟
ليس أبا هذا
أهذا الذي ينبض بصدره قطعة من حجر أم ماذا ؟
: يا بني الحزن في القلب
ليس الحزن بارتداء السواد
: نعم يا أمي نعم ، ولكن
: علي ، أباكم يخاف عليكم من الحزن
:وهل السواد يا أمي
: علي أنت لم تعرف أباك بعد
: أنت دائما هكذا يا أمي
: في يوم من الأيام سأبرهن لك ، والله إنه ليقبع على صدره حزن الكون
هيا يا علي ، هيا ، فلقد تأخر نومك
أسدلت فوقي الغطاء وراحت تربت على صدري
لم أشعر بعدها بشيء
وأثناء الليل
شعرت بأناملها تهزني ،
أتى همسها إلى مسامعي :
علي ؟ علي؟
: نعم يا أمي ، ماذا هناك ؟
: قم ، تعال معي
: خيرا يا أمي ، خيرا ، هل حدث مكروه لا سمح الله ؟
: لا تنزعج يا بني ، ألم أقل لك أنك لم تعرف أباك بعد ؟
: وهل توقظينني يا أمي لتقولين لي هذا ؟
: نعم تعال معي
قمت معها ، أخذتني من يدي و اتجهت إلى غرفة أبي
: حذار أن يحس بنا
فتحت برفق باب الغرفة
وجدته جالسا في ضوء المصباح الشاحب مفتوحا بين يديه كتاب الله
وصلت إلى مسامعي حشرجة مكتومة
: والله إنا لفراقك يا محمود لمحزونون
انهمرت من عينيه سيول الدمع المتفجر بعد محاولاته المضنية لكبتها
وانطلقت أنا لغرفتي أحاول أن أكتم حزنا جاش بصدري
لا أدري ، أهذا أبي ؟
أيعقل أن هذا الجبل الصلد يحمل داخله كل هذا الحنان ؟
أيعقل أن هذا الجبروت الجامح يحمل بين صدره هذا القلب الحاني ؟
واحسر تاه على هذه السنين التي ضاعت دون علمي بهذه الحقيقة
واحسر تاه على هذا الحنان الضائع أدراج الرياح
كيف يا أبي استطعت أن تخدعنا كل هذه السنين ؟
و الله إن الحق كل الحق معك يا أمي
نعم أنا لم أعرف أبي بعد
نعم فحزنه على محمود يكفي العالم أجمع
أحمد الله أنني الآن عرفت أبي ، عرفت الآن و الآن فقط هذا القلب النابض بالرحمة
شق الصمت صوت ارتطام بالأرض تبعتها صرخة مدوية
إنها صرخة أمي ، نعم هذه أمي
انطلقت إلى غرفة أبي
دفعت الباب الواقف في وجهي
توقف قلبي رعبا عندما بصرت أمي تهز جسد أبي الممدد فوق الأرض
تدور الغرفة من حولي
وأراني أقترب رعبا
تترقرق الصورة بعيني ، أراه ممددا حاملا فوق القلب كتاب الله
يرحمك الله يا قلبا لم أعرفه
أعجبتني القصه ونقلتها لكم أتمنى تكون أعجبتكم
( قلبا لم أعرفه )
قصة من تأليف : محمد عبد المحسن سنجر
السن : 40 عاما
الجنسية : مصري
المهنة : فنان تشكيلي